الخميس، آذار ٣٠، ٢٠٠٦



هل الكتاب الذي أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم والذي يحتوي على رسالته ونبوته هو من التراث أم لا يدخل في التراث؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد أن نفترض أحد الفرضين التاليين وهما:
1- أن ما يسمى بالكتاب والموجود بين دفتي المصحف هو من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم.
2- أن ما يسمى بالكتاب والموجود بين دفتي المصحف موحى من الله سبحانه وتعالى بالنص والمحتوى، وأن الفصول فيه تسمى سوراً، وأن السور مؤلفة من مقاطع كل واحد منها يسمى آية.
فإذا أخذنا الاحتمال الأول، فهذا يعني أن الكتاب هو من التراث لأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو من الناس، والناس هم الذين يصنعون التراث، ففي هذه الحالة يمكن أن يصنف محمد صلى الله عليه وسلم مع العظماء العباقرة لا مع الأنبياء والرسل،
وهذا ما فعله بالضبط أحد الكتاب الأمريكيين (مايكل هارت) إذ صنف محمداً صلى الله عليه وسلم أول عظيم في التاريخ، وانطلت هذه الخدعة على كثير من المسلمين أنفسهم. فإذا كان الكتاب هو من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم فيجب أن يحتوي على الخاصة التالية:
إن أي إنسان عظيم هو من نتاج عصره لا يخرج عن ذلك أبداً، فإذا كان الكتاب من صنع محمد صلى الله عليه وسلم فهو بالتالي غير صالح لكل زمان ومكان، وإنما هو وليد الظروف الموضوعية، حقق قفزة نوعية، فصلح للقرن السابع في شبه جزيرة العرب، ولعدة قرون تلته، ولكنه غير صالح للقرن العشرين لأن الإنسان مهما بلغ من العبقرية فإنه يحمل طابع النسبية الزماني والمكاني.
وهذا ما يقوله أعداء الإسلام عن الكتاب، وقد ساعدهم على هذا القول لسان حال المسلمين السلفيين أنفسهم، إذ حجروا الإسلام وفق نمط واحد في قولهم إن الإسلام هو وفق نمط القرن الأول الهجري "صدر الإسلام" وهم يقولون في الوقت نفسه إن الإسلام صلاح لكل زمان ومكان، ومن ها هنا وقعوا في معضلة غير قابلة للحل.
وإن كان هذا الكتاب موحى من الله سبحانه وتعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو في الوقت نفسه خاتم الكتب، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم فيجب أن يحتوي هذا الكتاب على الخواص التالية:
أ- إن الله سبحانه وتعالى مطلق وكامل المعرفة ولا يتصف بطابع النسبية وبالتالي فإن كتابه يحمل الطابع المطلق في المحتوى.
ب- بما أن الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أن يعلم نفسه أو يهدي نفسه وإنما جاء هذا الكتاب هداية للناس وآخر الكتب فوجب أيضاً أن يحمل طابع النسبية في الفهم الإنساني له.
ج- بما أن نمط التفكير الإنساني لا يمكن أن يتم بدون لغة، فيجب أن يصاغ الكتاب بلغة إنسانية أولاً، وثانياً أن تكون هذه الصياغة لها طابع خاص وهو أنها تحتوي المطلق الإلهي في المحتوى والنسبية الإنسانية في فهم هذا المحتوى، وهذا ما نعبر عنه بثبات الصيغة اللغوية "النص" وحركة المحتوى، ففي هذه الحالة يمكن أن نقول: إن ذا من الله سبحانه وتعالى لأن الإنسان عاجز عن تحقيق هذه الشروط.
فإذا كان هذا الكتاب يحتوي على هذه الخاصية، فعند ذلك تعطى آياته طابع القدسية أو النص المقدس الذي لا يمس ولا يحرف، وإنما يجري تأويله على مر العصور والدهور، وفي هذه الحالة فقط لا يعتبر الكتاب تراثاً، وإنما التراث هو الفهم النسبي للناس له في عصر من العصور، حتى ولو جاء هذا الفهم من عهد صدر الإسلام.
أي أن ما حدث في القرن السابع في شبه جزيرة العرب هو تفاعل الناس في ذاك الزمان والمكان مع الكتاب، وهذا التفاعل هو الاحتمال الأول للإسلام (الثمرة الأولى)، وليس الوحيد وليس الأخير، وقد كان هذا التفاعل إنسانياً في محتواه (إسلامياً) قومياً في مظهره. وفي هذه الحالة يدخل هذا التفاعل ضمن التراث ما عدا العبادات والأخلاق والحدود "الصراط المستقيم" حيث إنها ليست تفاعلاً مع العصر، وقد عبر عن الأخلاق والحدود بمظاهر العصر.
أما اللباس والطعام والشراب وأساليب الحكم ونمط الحياة فهي تفاعل مع الشروط الموضوعية، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التفاعل الأول، وكان لنا الأسوة الحسنة.
لقد أجرينا مسحاً شاملاً للكتاب الموحى، فتبين لنا أنه يحوي على الخاصية المذكورة أعلاه، والتي لا يستطيع إنسان أن يقوم بها، ووجدنا هذه الخاصية في الآيات المتشابهات، وبالتالي وجدنا أن هناك ثلاثة أنواع من الآيات في الكتاب.
ولم نستطع أن نقوم بهذا التصنيف إلا بعد أن تم تحديد الفرق بين النبوة والرسالة.
فالنبوة هي مجموعة من المعلومات أوحيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها سمي نبياً، أي أن كل الأخبار والمعلومات التي جاءت إلى النبي بالإضافة إلى المعلومات فأصبح بها رسولاً، فالنبوة علوم والرسالة أحكام. أي نظرية الوجود الكوني والإنساني وتفسير التاريخ هي من النبوة، وهي من الآيات المتشابهات، أما التشريع مع إرث وعبادات، ومعها الفرقان العام "الأخلاق" والمعاملات والأحوال الشخصية والمحرمات فهي الرسالة أي الآيات المحكمات.
وهناك نوع ثالث من الآيات وهو الآيات الشارحة لمحتوى الكتاب، فهي لا محكمة ولا متشابهة، ولكنها من النبوة حيث تحتوي على معلومات،
لذا فإن الكتاب من حيث الآيات ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- الآيات المحكمات وهي التي تمثل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقد أطلق الكتاب عليها مصطلح "أم الكتاب"، وهي قابلة للاجتهاد حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية ما عدا العبادات والأخلاق والحدود.
2- الآيات المتشابهات وقد أطلق عليها الكتاب مصطلح "القرآن والسبع المثاني" وهي القابلة للتأويل وتخضع للمعرفة النسبية وهي آيات العقيدة.
3- آيات لا محكمات ولا متشابهات وقد أطلق عليها الكتاب مصطلح "تفصيل الكتاب".ونحن نرى أن التحدّي للناس جميعاً بالإعجاز إنما وقع في الآيات المتشابهات "القرآن والسبع المثاني"، وفي الآيات غير المحكمات وغير المتشابهات "تفصيل الكتاب" حيث أن هذين البندين يشكلان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

______________________________________________
(مقتطفات من كتب د/ محمد شحرور:من كتاب "الكتاب والقرآن قراءة معاصرة")
__________________________________________

ليست هناك تعليقات: