السبت، آذار ١١، ٢٠٠٦



ماذا نفعل بكتب التراث من فقه وتفاسير، التي يطبع منها كل عام آلاف النسخ، وتدرس على أنها الإسلام؟
هنا قد يسأل سائل: ماذا نفعل بكتب التراث من فقه وتفاسير، التي يطبع منها كل عام آلاف النسخ، وتدرس على أنها الإسلام؟ الجواب على هذا السؤال الصعب جداً هو أنني لم أستطع أن أقدم هذا الكتاب، وأصل إلى النتائج المطروحة للقارئ، إلا بعد أن تم حل هذه المعضلة مع التأكيد على أنني عربي مؤمن مسلم.
التراث والمعاصرة والأصالة:علينا أن نميز بين المصطلحات الثلاثة الواردة أعلاه، بوضع تعريف لكل منها:
التراث: هو النتاج المادي والفكري الذي تركه السلف للخلف، والذي يؤدي دوراً أساسياً في تكوين شخصية الخلف، في عقله الباطن (نمط التفكير) وسلوكه الظاهر. هكذا يفهم التراث على أنه من صنع الإنسان ونتاج النشاط الإنساني الواعي، في مراحل تاريخية متعاقبة.
المعاصرة: هي تفاعل الإنسان المعاصر مع النتاج المادي والفكري، الذي هو أيضاً من نتاج الإنسان، فبهذا المعنى يكون التراث والمعاصرة مفهومين متداخلين، تفصل بينهما لحظة الآن المتحركة باستمرار، وعليه إذا صدر مقال في صحيفة، منذ عشر سنوات، فإنه قد يدخل في مفهوم التراث. وليس للناس خيار في الانتماء إلى تراثهم، ولكن لهم الخيار في انتقاء معاصرتهم من التراث ومن منجزات عصرهم، لأن الحدث الإنساني الواعي يدخل في عالم الممكنات قبل وقوعه (بحيث يمكن حدوثه أو عدم حدوثه)، وبعد وقوعه يصبح حقيقة لا رجعة فيها. فنحن العرب المسلمين لا خيار لنا في تراثنا، أي إننا لا نستطيع أن نضع تراثاً غير التراث الذي حصل فعلاً، وورثناه، ولكننا نستطيع أن نختار بأنفسنا منه ما يلزم حاضرنا ومستقبلنا، ونحن أيضاً بهذا الاختيار نصنع تراثاً لأجيالنا المقبلة.
إن القرآن الكريم قد نهانا عن أن نقف من التراث موقف الانصياع الأعمى والتقديس (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) (المؤمنون 24) (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مهتدون) (الزخرف 22) هذا الموقف يدعو إلى أن نحترم تراثنا لا أن نقدسه. إن الذين صنعوا التراث العربي الإسلامي هم من الناس ونحن من الناس أيضاً، ومعروف قول أبي حنيفة النعمان "هم رجال ونحن رجال"، وقد آن لنا أن نصنع تراثاً لأجيالنا القادمة بملء إرادتنا وبدون حرج، وهذه هي عين المعاصرة.
الأصالة: للأصالة عنصران متتامان، يفهم كل واحد منهما حسب الموضوع المطروح تحت عنوان الأصالة.
فإذا قلنا: إن اللسان العربي لسان أصيل، فهذا يعني أنه لسان له جذور غارقة في القدم، وهذا هو العنصر الأول،
وأنه ما زال حياً مثمراً إلى يومنا هذا، وهذا هو العنصر الثاني.
وهذا المعنى أخذناه من قوله تعالى (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) (إبراهيم 24-25)، فجذر الشجرة وأغصانها هما العنصران المتتامان: الجذور تضرب في الأرض والأغصان تعطي الثمار.
وفي هذا المجال نقول: لقد قام العالم مندليف ببحث أصيل في الكيمياء

، حيث وضع جدول العناصر في الطبيعة، وقولنا (بحث أصيل) هنا بمعنى أنه بحث فيه إبداع وابتكار لم يسبقه إليه أحد.
ولكن هذا البحث لم يأت من فراغ، بل اعتمد على تراكمات سابقة في المعرفة الكيميائية (الجذور).فإذا أردنا أن نكون أصيلين في المعرفة فعلينا أن نستفيد من كل تراكمات المعرفة التي أنتجها الانسان، ومن ضمنها التراث في كل العلوم، (الجذور) وهي العنصر الأول للأصالة بحيث نحقق قفزة نوعية (الثمار) وهي العنصر الثاني للأصالة. وهذا ما نسميه بالحضارة الحية، فالحضارة الحية كالشجرة الحية، لها جذور وتعطي ثماراً ينتفع بها الناس، وليس في موسم واحد فقط بل في مواسم متتابعة.إذا نظرنا إلى الحضارة العربية الإسلامية في الوقت الحاضر، نرى فيها عنصر الجذور متوفراً، ولكن لا يوجد ثمار لأنها جفت ونضبت.
فنحن الآن مستهلكون للسلع والأفكار، حتى إن أفكار التراث استلكت ونضبت، ووصلنا في طرحنا لأفكار التراث إلى حد السذاجة في بعض الأحيان. وفي هذا المقام يجب علينا أن نميز بين مصطلحين يقع الالتباس بينهما وهما الأصالة والسلفية، فالأصالة لها مفهوم إيجابي حي، أما السلفية فهي عكس ذلك تماماً، السلفية، فالأصالة لها مفهوم إيجابي حي، أما السلفية فهي عكس ذلك تماماً، السلفية كما نفهمها هي دعوة إلى اتباع خطي السلف بغض النظر عن مفهوم الزمان والمكان ، أي أن هناك فترة تاريخية مزدهرة مرت على العرب استطاعوا فيها حل مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، واستطاعوا أن يبنوا دولة قوية منيعة، استطاعت تحقيق العدالة بمفهومها النسبي التاريخي، وبالتالي فإن هؤلاء السلف هم النموذج، ويجب علينا أن نتبع خطاهم ونقلدهم ولا نخرج عن نمطهم.
فالسلفي هو إنسان مقلد، إضافةً إلى أنه قد أهمل الزمان والمكان واغتال التاريخ وأسقط العقل. ويعيش السلفي في القرن العشرين مقلداً القرن السابع، والتقليد مستحيل لأن ظروف القرن السابع تختلف عن ظروف القرن العشرين، فمهما حاولنا الرجوع إلى القرن السابع لا يمكننا أن نفهمه كما فهمه أهله الذين عاشوه فعلاً، لأننا نرجع إليه من خلال نص تاريخي فقط. ولهذا السبب وقع السلفي في فراغ فكري وصل إلى حد السذاجة، فقد ترك القرن العشرين عمداً ليعجز في الوقت نفسه عن أن يعيش القرن السابع كما عاشه أهله، فوقع في شرك الغراب الذي أراد أن يقلد صوت البلبل فلم يستطع، ثم أراد أن يرجع غراباً فنسي، فبقي في حالة عدم التعيين، فلا هو غراب ولا هو بلبل.
وهذا هو حال السلفيين، إن السلفية هروب مقنع من مواجهة تحديات القرن العشرين، وهزيمة نكراء أمام هذه التحديات، وهي البحث عن الذات في فراغ وليس في أرض الواقع. هذا فيما يتعلق بالسلفية الإسلامية، ولكن هناك نوعاً آخر من السلفية نراه عند تيارات أخرى تطرح حلولاً نظرية تعمل في فراغ وفق نموذج متحجر طرح في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، واعتبرته مقدساً فلا خروج منه، إنها تيارات سلفية أخرى لا تعيش زمانها ولا تتفاعل معه، وقد أثبتت الأحداث فشل هذا النموذج، وبالتالي لم يكتب لها النجاح ولم تستطع تقديم حلول لمشاكل مجتمعها المعاصرة والملحة.
(مقتطفات من كتب د/ محمد شحرور:من كتاب "الكتاب والقرآن قراءة معاصرة")
الحلقة الـــتاليـة : هل الكتاب الذي أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم والذي يحتوي على رسالته ونبوته هو من التراث أم لا يدخل في التراث؟

ليست هناك تعليقات: